فصل: الفصل الثاني: فضائل العلم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: كتاب العلم (نسخة منقحة)




.في تعريف العلم وفضله وحكم طلبه:

.الفصل الأول: تعريف العلم:

لغة: نقيض الجهل، وهو: إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكاً حازماً.
اصطلاحاً: فقد قال بعض أهل العلم: هو المعرفة وهو ضد الجهل، وقال آخرون من أهل العلم: إن العلم أوضح من أن يعرف.
والذي يعنينا هو العلم الشرعي، والمراد به: علم ما أنزل الله على رسوله من البيانات والهدى، فالعلم الذي فيه الثناء والمدح به خيراً يفقهه في الدين وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر».
ومن المعلوم أن الذي ورثه الأنبياء إنما هو علم شريعة الله- عز وجل- وليس غيره، فالأنبياء- عليهم الصلاة والسلام_ ما ورثوا للناس علم الصناعات وما يتعلق بها، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم حي قدم المدينة وجد الناس يؤبرون النخل- أي يلقحونها- قال لهم لما رأى من تعبهم كلاماً يعني أنه لا حاجة إلى هذا ففعلوا، وتركوا التلقيح، ولكن النخل فسد، ثم قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «أنتم أعلم بشؤون دنياكم».
ولو كان هذا هو العلم الذي عليه الثناء لكان الرسول صلى الله عليه وسلم أعلم الناس به، لأن أكثر من يثني عليه بالعلم والعمل هو النبي صلى الله عليه وسلم.
إذن فالعلم الشرعي هو الذي يكون فيه الثناء ويكون الحمد لفاعله، ولكني مع ذلك لا أنكر أن يكون للعلوم الأخرى فائدة، ولكنها فائدة ذات حدين: إن أعانت على طاعة الله وعلى نصر دين الله وانتفع بها عباد الله، فيكون ذلك خيراً ومصلحة، وقد يكون تعلمها واجبا في بعض الأحيان إذا كان ذلك داخلاً في قوله تعالي: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} (الأنفال: 60).
وقد ذكر كثير من أهل العلم أن تعلم الصناعات فرض كفاية، وذلك لأن الناس لابد لهم من أن يطبخون بها، ويشربون بها، وغير ذلك من الأمور التي ينتفعون بها، فإذا لم يوجد من يقوم بهذه المصانع صار تعلمها فرض كفاية. وذا محل جدل بين أهل العلم، الشرعي الذي هو فقه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما عدا ذلك فإما أن يكون وسيلة إلى خير أو وسيلة إلى شر، فيكون حكمه بحسب ما يكون وسيلة إليه.

.الفصل الثاني: فضائل العلم:

لقد مدح الله- سبحانه وتعالى العلم وأهله، وحثَ عباده على العلم والتزود منه وكذلك السنة المطهرة.
فالعلم من أفضل الأعمال الصالحة، وهو من أفضل وأجلَ العبادات، عبادات التطوع، لأنه نوع من الجهاد في سبيل الله، فإن دين الله- عز وجل- إنما قام بأمرين:
أحدهما: العلم والبرهان.
والثاني: القتال والسنان، فلا بد من هذين الأمرين، ولا يمكن أن يقوم دين الله ويظهر إلا بهما جميعاً، والأول منهما مقدًم على الثاني، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يغيٌر على قوم حتى تبلغهم الدعوة إلى الله- عز وجل- فيكون العلم قد سبق القتال.
قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} (الزمر، الآية: 9) فالاستفهام هنا لابد فيه من مقابل أمن هو قائم قانت آناء الليل والنهار أي كمن ليس كذلك، والطرف الثاني المفضل عليه محذوف للعلم به، فهل يستوي من هو قانت آناء الليل ساجداً أو قائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، هل يستوي هو من هو مستكبر عن طاعة الله؟
الجواب: لا يستوي فهذا الذي هو قانت يرجو ثواب الله ويحذر الآخرة هل فعلُهُ ذلك عن علم أو عن جهل؟ الجواب: عن علم، ولذلك قال: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (الزمر الآية: 9). لا يستوي الذي يعلم والذي لا يعلم، كما لا يستوي الحي والميت، والسميع والأصم، والبصير والأعمى، العلم نور يهتدي به الإنسان، ويخرج به من الظلمات إلى النور، العلم يرفع الله به من يشاء من خلقه {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (المجادلة: الآية 11). ولهذا نجد أن أهل العلم محل الثناء، كلما ذُكروا أثنى عليهم، وهذا رفع لهم في الدنيا، أما في الآخرة فإنهم يرتفعون درجات بحسب ما قاموا به من الدعوة إلى الله والعمل بما عملوا.
إن العابد حقًا هو الذي يعبد ربه على بصيرة ويتبين له الحق، وهذه سبيل النبي {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (يوسف الآية: 108)
فالإنسان الذي يتطهر وهو يعلم أنه على طريق شرعي، هل هو كالذي يتطهر من أجل أنه رأى أباه أو أمه يتطهرا؟.
أيهما أبلغ في تحقيق العبادة؟ رجل يتطهر لأنه علم أن الله أمر بالطهارة وأنها هي طهارة النبي صلى الله عليه وسلم فيتطهًر امتثالاً لأمر الله واتباعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أم رجل آخر يتطهر لأن هذا هو المعتاد عنده؟.
فالجواب: بلا شك أن الأول هو الذي يعبد الله على بصيرة. فهل يستوي هذا وذاك؟ وإن كان فعل كل منهما واحداً، لكن هذا عن علم وبصيرة يرجو الله- عز وجل ويحذر الآخرة ويشعر بأنه متبع للرسول صلى الله عليه وسلم وأقف عند هذه النقطة وأسأل هل نستشعر عند الوضوء بأننا نمتثل لأمر الله- سبحانه وتعالى- في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْن} (المائدة: الآية 6).
هل الإنسان عند وضوئه يستحضر هذه الآية وأنه يتوضأ امتثالاً لأمر الله؟.
هل يستشعر أن هذا وضوء رسول الله وأنه يتوضأ اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟
الجواب: نعم، الحقيقة أن منا من يستحضر ذلك، ولهذا بذلك الإخلاص وأن نكون متبعين لرسول الله. نحن نعلم أن من شروط الوضوء النية، لكن النية قد يراد بها نية العمل وهذا نتنبه لهذا الأمر العظيم، وهي أن نستحضر ونحن نقوم بالعبادة أن نمتثل أمر الله بها لتحقيق الإخلاص، وأن نستحضر أن الرسول صلى الله عليه وسلم فعلها ونحن له متبعون فيها لتحقيق المتابعة؛ لأن من شروط صحة العمل: الإخلاص، والمتابعة اللذين بها تتحقق شهادة أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
نعود إلى ما ذكرنا أولاً من فضائل العلم، إذ بالعلم يعبد الإنسان ربه على بصيرة، فيتعلق قلبه بالعبادة ويتنور قلبه بها، ويكون فاعلاً لها على أنها عبادة لا على أنها عادة، ولهذا إذا صلي الإنسان على هذا النحو فإنه مضمون له ما أخبر الله به من أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.
ومن أهم فضائل العلم ما يلي:
1- أنه إرث الأنبياء، فالأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- لم يورثوا درهماًَ ولا ديناراً وإنما ورثوا العلم، فمنْ أخذ بالعلم فقد أخذ بحظ وافر من إرث الأنبياء، فأنت الآن في القرن الخامس عشر إذا كنت من أهل العلم ترث محمداً وهذا من أكثر الفضائل.
2- أنه يبقى والمالي يفني، فهذا أبو هريرة- رضي الله عنه- من فقراء الصحابة حتى إنه يسقط من الجوع كالمغمي عليه وأسألكم بالله هل يجري لأبي هريرة ذكر بين الناس في عصرنا أم لا؟ نعم يجري كثيرا فيكون لأبي هريرة أجر من انتفع بأحاديثه، إذ العلم يبقى والمال يفنى، فعليك يا طالب العلم أن تستمسك بالعلم فقد ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات الإنسان، انقطع عمله إلا من ثلاث؛ صدقة جارية أو عمل ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له».
3- أنه لا يتعقب صاحبه في الحراسة؛ لأنه إذا رزقك الله علماً فمحله في القلب لا يحتاج إلى صناديق أو مفاتيح أو غيرها، هو في القلب محروس، وفي النفس محروس، وفي الوقت نفسه هو حارس لك؛ لأنه يحميك من الخطر بإذن الله- عز وجل- فالعلم يحرسك، ولكن المال أنت تحرسه تجعله في صناديق وراء الأغلاف، ومع ذلك تكون غير مطمئن عليه.
4- أن الإنسان يتوصل به إلى أن يكون من الشهداء على الحق، والدليل قوله تعالي: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ} (آل عمران: الآية 18). فهل قال: أولو المال؟ لا، بل قال: {وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ} فيكفيك فخراً يا طالب العلم أن تكون ممن شهد الله أنه لا إله إلا هو مع الملائكة الذين يشهدون بوحدانية الله عز وجل.
5- أن أهل العلم هو أحد صنفي ولاة الأمر الذين أمر الله بطاعتهم في قوله تعالي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (النساء: من الآية 59). فإن ولاة الأمور هنا تشمل ولاة الأمور من الأمراء والحكام، والعلماء وطلبة العلم؛ فولاية أهل العلم في بيان شريعة الله ودعوة الناس إليها وولاية الأمراء في تنفيذ شريعة الله وإلزام الناس بها.
6- أن أهل العلم هو القائمون على أمر الله تعالي حتى تقوم الساعة، ويستدل لذلك بحديث معاوية- رضي الله عنه- يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقوم: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله». رواه البخاري.
وقد قال الإمام أحمد عن هذه الطائفة: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم.
وقال القاضي عياض- رحمه الله-: أراد أحمد أهل السنة ومن يعتقد مذهب الحديث.
7- أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يرغب أحداً أن يغبط أحداً على شيْ من النعم التي أنعم الله بها إلا على نعمتين هما:
1- طلب العلم والعمل به.
2- التاجر الذي جعل ماله خدمة للإسلام. فعن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل أتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمةً فهو يقضي بها ويعٌلّمٌها».
8- ما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري عن أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكان منها طائفة طيبة، قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعُشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تُمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقُُه في دين الله ونفعهُ ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هُدى الله الذي أرسلتُ به».
9- أنه طريق الجنة كما دل على ذلك حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله قال: «ومن سلك طريقا يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة.». رواه مسلم.
10- ما جاء في حديث معاوية- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله: «من يرد الله به خيراً يُفقهه في الدين». أي يجعله فقيهاً في دين الله- عز وجل-، والفقه في الدين ليس المقصود به فقه الأحكام العملية المخصوصة عند أهل العلم بعلم الفقه فقط، ولكن المقصود به هو: علم التوحيد، وأصول الدين، وما يتعلق بشريعة الله- عز وجل-. ولو لم يكن من نصوص الكتاب والسنة إلا هذا الحديث في فضل العلم لكان كاملاً في الحثً على طلب علم الشريعة والفقه فيها.
11- أن العلم نور يستضيء به العبد فيعرف كيف يعبد ربه، وكيف يعامل عباده، فتكون مسيرته في ذلك على علم وبصيرة.
12- أن العالم نور يهتدي به الناس في أمور دينهم ودنياهم، ولا يخفي على كثير منّا قصة الرجل الذي من بني إسرائيل قتل تسعا ًوتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عابد فسأله هل له من توبة؟ فكان العابد استعظم الأمر فقال: لا. فقتله فأتم به المئة، ثم ذهب إلى عالم فسأله فأخبره أن له توبة وأنه لاشيء يحول بينه وبين التوبة، ثم دله على بلد أهله صالحون ليخرج إليها، فخرج فأتاه الموت في أثناء الطريق. والقصة مشهورة. فانظر الفرق بين العالم والجاهل.
13- أن الله يرفع أهل العلم في الآخرة وفي الدنيا، أما في الآخرة فإن الله يرفعهم درجات بحسب ما قاموا به من الدعوة إلى الله- عز وجل- والعمل بما علموا، وفي الدنيا يرفعهم الله بين عباده بحسب ما قاموا به. قال الله تعالي: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (المجادلة: الآية 11).

.الفصل الثالث: حكم طلب العلم:

طلب العلم الشرعي فرض كفاية إذا قام به من يكفي صار في حق الآخرين سنة، وقد يكون طلب العلم واجباً على الإنسان عيناً أي فرض عين، وضابطه أن يتوقف عليه معرفة عبادة يريد فعلها أو معاملة يريد القيام بها، فإنه يجب عليه في هذه الحال أن يعرف كيف يتعبد لله بهذه العبادة وكيف يقوم بهذه المعاملة، وما عدا ذلك من العلم ففرض كفاية وينبغي لطالب العلم أن يشعر نفسه أنه قائم بفرض كفاية حال طلبه ليحصل له ثواب فاعل الفرض مع التحصيل العلمي.
ولا شك أن طلب العلم من أفضل الأعمال، بل هو من الجاهد في سبيل الله، ولاسيما في وقتنا هذا حين بدأت البدع تظهر في المجتمع الإسلامي وتنتشر وتكثر، وبدأ الجهل الكثير ممن يتطلع إلى الإفتاء بغير علم، وبدأ الجدل من كثير من الناس، فهذه ثلاثة أمور كلها تحتم على الشباب أن يحرص على طلب العلم.
أولا: بدع بدأت تظهر شرورها.
ثانيًا: أناس يتطلعون إلى الإفتاء بغير علم.
ثالثاً: جدل كثير في مسائل قد تكون واضحة لأهل العلم لكن يأتي من يجادل فيها بغير علم.
فمن أجل ذلك فنحن في ضرورة إلى أهل علم عندهم رسوخ وسعة اطلاع، وعندهم فقه في دين الله، وعندهم حكمة في توجيه عباد الله لأن كثيراً من الناس الآن يحصلون على علم نظري في مسألة من المسائل ولا يهمهم النظر إلى إصلاح الخلق وإلى تربيتهم، وأنهم إذا أفتوا بكذا وكذا صار وسيلة إلى شر أكبر لا يعلم مداه إلا الله.

.في آداب طالب العلم والأسباب المعينة على تحصيله:

.الفصل الأول: آداب طالب العلم:

طالب العلم لابد له من التأدب بآداب، نذكر منها:
الأمر الأول: إخلاص النية لله- عز وجل-:
بأن يكون قصده بطلب العلم وجه الله والدار الآخرة؛ لأن الله حثُ عليه ورغب فيه، فقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} (محمد: الآية 19) والثناء على العلماء في القرآن معروف، وإذا أثنى الله على شيء أو أمر به صار عبادة.
إذن فيجب الإخلاص فيه لله بأن ينوي الإنسان في طلب العلم وجه الله- عز وجل- وإذا نوى الإنسان بطلب العلم الشرعي أن ينال شهادة ليتوصل بها إلى مرتبة أو رتبة، فقد قال رسول الله «من تعلم علماً يبتغي به وجه الله- عز وجل- لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة»- يعني ريحها- وهذا وعيد شديد.
لكن لو قال طالب العلم: أنا أريد أن أنال الشهادة لا من أجل حظ من الدنيا، ولكن لأن النظم أصبح مقياس العالم فيها شهادته فنقول: إذا كانت نية الإنسان نيل الشهادة من أجل نفع الخلق تعليمًا أو إدارة أو نحوها، فهذه نية سليمة لا تضره شيئاً؛ لأنها نية حق.
وإنما ذكرنا الإخلاص في أول آداب طالب العلم؛ لأن الإخلاص أساس، فعلى طالب العلم أن ينوي بطلب العلم امتثال أمر الله- عز وجل- لأن الله- عز وجل- أمر بالعلم فقال تعالي: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} (محمد: الآية 19) فأمر بالعلم، فإذا تعلمت فإنك ممتثل لأمر الله- عز وجل-.
الأمر الثاني: رفع الجهل عن نفسه وعن غيره:
أن ينوي بطلب العلم رفع الجهل عن نفسه وعن غير؛ لأن الأصل في الإنسان الجهل، ودليل ذلك قوله تعالي: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون} (النحل: 78). والواقع يشهد بذلك فتنوي بطلب العلم رفع الجهل عن نفسك وبذلك تنال خشية الله {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر، الآية: 28) فتنوي رفع الجهل عن نفسك لأن الأصل فيك الجهل، فإذا تعلمت وصرت من العلماء انتفي عنك الجهل، وكذلك تنوي رفع الجهل عن الأمة ويكون ذلك بالتعليم بشتى الوسائل لتنفع الناس بعلمك.
وهل من شرط نفع العلم أن تجلس في المسجد في حلقة؟
أو يمكن أن تنفع الناس بعلمك في كل حال؟
الجواب: بالثاني؛ لأن الرسول يقول: «بلغوا عني ولو آية».
لأنك إذا علمت رجلاً علماً وعلّمه رجلاً آخر صار لك أجر رجلين، ولو علم ثالثاُ صال لك أجر ثلاثة وهكذا، ومن ثم صار من البدع أن الإنسان إذا فعل عبادة قال: «اللهم اجعل ثوابها لرسول الله»؛ لأن الرسول هو الذي علمك بها وهو الذي دلك عليها فله مثل أجرك.
قال الإمام أحمد- رحمه الله تعالي-: العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيته. قالوا: كيف ذلك؟ ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره؛ لأن الأصل فيهم الجهل كما هو الأصل فيك، فإذا تعلمت من أجل أن ترفع الجهل عن هذه الأمة كنت من المجاهدين في سبيل الله الذين ينشرون دين الله.
الأمر الثالث: الدفاع عن الشريعة:
أن ينوي بطلب العلم الدفاع عن الشريعة؛ لأن الكتب لا يمكن أن تدافع عن الشريعة، ولا يدافع عن الشريعة إلا حامل الشريعة، فلوا أن رجلاً من أهل البدع جاء إلى مكتبة حافلة بالكتب الشرعية فيها ما لا يحصي من الكتب، وقام يتكلم ببدعة ويقررها فلا أظن أن كتاباً واحداً يرد عليه، لكن إذا تكلم عن عند شخص من أهل العلم ببدعته ليقررها فإن طالب العلم يرد عليه ويدحض كلامه بالقرآن والسنة.
فعلى طالب العلم أن ينوى بطلب العلم الدفاع عن الشريعة؛ لأن الدفاع عن الشريعة لا يكون إلا برجالها كالسلاح تماماً، لو كان عندنا أسلحة ملأت خزائنها فهل هذه الأسلحة تستطيع أن تقوم من أجل أن تلقي قذائفها على العدو؟ أو لا يكون ذلك إلا بالرجال؟
فالجواب: لا يكون ذلك إلا بالرجال، وكذلك العلم.
ثم إن البدع تتجدد، فقد توجد بدع ما حدثت في الزمن الأول ولا توجد في الكتب فلا يمكن أن يدافع عنها إلا طالب العلم، ولهذا أقول:
إن ما تجب مراعاته لطالب العلم الدفاع عن الشريعة، إذن فالناس في حاجة ماسة إلى العلماء؛ لأجل أن يردوا على كيد المبدعين وسائر أعداء الله- عز وجل- ولا يكون ذلك إلا بالعلم الشرعي المتلقي من كتاب الله وسنة رسوله.
الأمر الرابع: رحابة الصدر في مسائل الخلاف:
أن يكون صدره رحباً في مواطن الخلاف الذي مصدره الاجتهاد؛ لأن مسائل الخلاف بين العلماء، أما أن تكون مما لا مجال للاجتهاد فيه ويكون الأمر فيها واضحاً فهذه لا يعذر أحد بمخالفتها، وإما أن تكون مما للاجتهاد فيها مجال فهذه يعذر فيها من خالفها، ولا يكون قولك حجة على من خالفك فيها؛ لأننا لو قبلنا ذلك لقنا بالعكس قوله حجة عليك.
وأنا أريد بهذا ما للرأي فيه مجال، ويسع الإنسان فيه الخلاف، أما من خالف طريق السلف كمسائل العقيدة فهذه لا يقبل من أحد مخالفة ما كان عليه السلف الصالح، لكن في المسائل الأخرى التي للرأي فيها مجال فلا ينبغي أن يتُخذ من هذا الخلاف مطعنٌ في الآخرين، أو يتُخذ منها سببٌ للعداوة والبغضاء.
فالصحابة- رضي الله عنهم- يختلفون في أمور كثيرة، ومن أراد أن يطلع على اختلافهم فليرجع إلى الآثار الواردة عنهم يجد الخلاف في مسائل كثيرة، وهي أعظم من المسائل التي اتخذها الناس هذه الأيام ديدناً للاختلاف حتى اتخذ الناس من ذلك تحزباً بأن يقولوا: أنا مع فلان كأن المسألة مسألة أحزاب فهذا خطأ.
من ذلك مثلاً كأن يقول أحد إذا رفعت من الركوع فلا تضع يدك اليمنى على اليسرى، بل أرسلها إلى جنب فخذيك فإن لم تفعل فأنت مبتدع.
كلمة مبتدع ليست هينة على النفس، إذا قال لي هذا سيحدث في صدري شيء من الكراهية؛ لأن الإنسان بشر، ونحن نقول هذه المسألة فيها سعة إما أن يضعها أو يرسلها، ولهذا نص الإمام أحمد- رحمه الله- على أنه يخيّر بين أن يضع يده اليمنى على اليسرى وبين الإرسال؛ لأن الأمر في ذلك واسع، ولكن ما هي السنة عند تحرير هذه المسألة؟
فالجواب: السنة أن تضع يدك اليمنى على اليسرى إذا رفعت من الركوع كما تضعها إذا كنت قائماً، والدليل فيما رواه البخاري عن سهل بن سعد قال كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة فلتنظر هل يريد بذلك في حال السجود؟ أو يريد بذلك في حال القعود؟ لا بل يريد بذلك في حالة القيام وذلك يشمل القيام قبل الركوع والقيام بعد الركوع، فيجب أن لا نأخذ من هذا الخلاف بين العلماء سبباً للشقاق والنزاع؛ لأننا كلنا نريد الحق وكلنا فعل ما أدّاه اجتهاده إليه، فما دام هكذا فإنه لا يجوز أن نتخذ من ذلك سبباً للعداوة والتفرق بين أهل العلم؛ لأن العلماء لم يزالوا يختلفوا حتى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
إذن فالواجب على طلبة العلم أن يكونوا يداًَ واحدة، ولا يجعلوا مثل هذا الخلاف سبباً للتباعد والتباغض، بل الواجب إذا خالفت صاحبك بمقتضى الدليل عندك، وخالفكم هو بمقتضى الدليل عنده أن تجعلوا أنفسكم على طريق واحد، وأن تزداد المحبة بينكما.
ولهذا فنحن نحب ونهنىء شبابنا الذين عندهم الآن اتجاهاً قوياً إلى أن يقرنوا المسائل بالدلائل وأن يبنوا علمهم على كتاب الله وسنة رسوله، نرى أن هذا من الخير وأنه يبشر بفتح أبواب العلم من مناهجه الصحيحة، ولا نريد منهم أن يجعلوا ذلك سببا للتحزب والبغضاء، وقد قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: الآية: 159) فالذين يجعلون أنفسهم أحزاباً يتحزبون إليها لا نوافقهم على ذلك لأن حزب الله واحد، ونرى أن اختلاف الفهم لا يوجب أن يتباغض الناس وأن يقع في عرض أخيه.
فيجب على طلبة العلم أن يكونوا إخوة، حتى وإن اختلفوا في بعض المسائل الفرعية، وعلى كل واحد أن يدعو الآخر بالهدوء والمناقشة التي يُراد بها وجه الله والوصول إلى العلم، وبهذا تحصل الألفة، ويزول هذا العنت والشدة التي تكون في بعض الناس، حتى قد يصل بهم الأمر إلى النزاع والخصام، وهذا لا شك يفرح أعداء المسلمين والنزاع بين الأمة من أشد ما يكون في الضرر قال الله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال، الآية: 46).
وكان الصحابة- رضي الله عنهم- يختلفون في مثل هذه المسائل، ولكنهم على قلب واحد، على محبة وائتلاف، بل إني أقول بصراحة إن الرجل إذا خالفك بمقتضى لدليل عنده فإنه موافق لك في الحقيقة؛ لأن كلاً منكما طال للحقيقة وبالتالي فالهدف واحد وهو الوصول إلى الحق عن دليل، فهو إذن لم يخالفك ما دمت تقرّ أنه إنما خالفك بمقتضى الدليل عنده، فأين الخلاف؟ وبهذه الطريقة تبقي الأمة واحدة وإن اختلفت في بعض المسائل لقيام الدليل عندها، أما مَنْ عاند وكابر بعد ظهور الحق فلا شك أنه يجب أن يعامل بما يستحقه بعد العناد والمخالفة، ولكل مقام مقال.
الأمر الخامس: العمل بالعلم:
أن يعمل طالب العلم بعلمه عقيدة وعبادة، وأخلاقاً وآداباً ومعاملةً؛ لأن هذا هو ثمرة العلم وهو نتيجة العلم، وحامل العلم كالحامل لسلاحه، إما له وإما عليه، ولهذا ثبت عن النبي أنه قال: «القرآن حجة لك أو عليك». لك إن عملت به،
وعليك إن لم تعمل به، وكذلك يكون العمل بما صح عن النبي بتصديق الأخبار وامتثال الأحكام، إذا جاء الخبر من الله ورسوله فصدقه وخذه بالقبول والتسليم ولا تقل: لم؟ وكيف؟ فإن هذا طريقة غير المؤمنين فقد قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} (الأحزاب الآية: 36).
والصحابة كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدثهم بأشياء قد تكون غريبة وبعيدة عن أفهامهم، ولكنهم يتلقون ذلك بالقبول لا يقولون: لم؟ وكيف؟ بخلاف ما عليه المتأخرون من هذه الأمة، نجد الواحد منهم إذا حُدًث بحديث عن الرسول وحار عقله فيه نجده يورد على كلام الرسول الإيرادات التي تستشف منها أنه يريد الاعتراض لا الاسترشاد، ولهذا يحال بينه وبين التوفيق، حتى يرد هذا الذي جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه لم يتلقه بالقبول والتسليم.
وأضرب لذلك مثلاً ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له».
هذا الحديث حدّث به النبي وهو حديث مشهور بل متواتر، ولم يرفع أحد من الصحابة لسانه ليقول: يا رسول الله كيف ينزل؟ وهل يخلو منه العرش أم لا؟ وما أشبه ذلك، لكن نجد بعض الناس يتكلم في مثل هذا ويقول كيف يكون على العرش وهو ينزل إلى السماء الدنيا؟ وما أشبه ذلك من الإيرادات التي يوردونها، ولو أنهم تلقوا هذا الحديث بالقبول وقالوا إن الله- عز وجل- مستو على عرشه والعلو من لوازم ذاته، وينزل كما يشاء- سبحانه وتعالي- لاندفعت عنهم هذه الشبهة ولم يتحيروا فيما أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه.
إذن الواجب علينا أن نتلقى ما أخبر الله به ورسوله من أمور الغيب والتسليم، وأن لا نعارضها بما يكون في أذهاننا من المحسوس والمشاهد؛ لأن الغيب أمر فوق ذلك، والأمثلة على ذلك كثيرة لا أحب أن أطيل بذكرها، إنما موقف المؤمن من مثل هذه الأحاديث هو القبول والتسليم بأن يقول صدق الله ورسوله كما أخبر الله عن ذلك في قوله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ} (البقرة الآية: 285).
فالعقيدة يجب أن تكون مبنية على كتاب الله وسنة رسوله، وأن يعلم الإنسان أنه لا مجال للعقل فيها لا أقول مدخل للعقل فيها، وإنما أقول لا مجال للعقل فيها، إلا لأن ما جاءت به من نصوص في كمال الله شاهدة به العقول، وإن كان أعقل لا يدرك تفاصيل ما يجب لله من كمال لكنه يدرك أن الله قد ثبت له كل صفة الكمال لابد أن يعمل بهذا العلم الذي منّ الله به عليه من ناحية العقيدة.
كذلك من ناحية العبادة، التعبد لله- عز وجل- وكما يعلم كثير منا أن العبادة مبنية على أمرين أساسين:
إحداهما: الإخلاص لله- عز وجل ـ.
والثاني: المتابعة للرسول، فيبني الإنسان عبادته على ما جاء عن الله ورسوله، لا يبتدع في دين الله ما ليس منه لا في أصل العبادة، ولا في وصفها، ولهذا نقول: لا بد في العبادة أن تكون ثابتة بالشرع في هيئتها، وفي مكانها، وفي زمانها، وفي سببها، لابد أن تكون ثابتة بالشرع في هذه الأمور كلها.
فلو أن أحداً أثبت شيئاً من الأسباب لعبادة تعبد الله بها دون دليل رددنا عليه ذلك، وقلنا: إن هذا غير مقبول؛ لأنه لابد أن يثبت بأن هذا سبب لتلك العبادة وإلا فليس بمقبول منه، ولو أن أحداً شرع شيئاً من العبادات لم يأت به الشرع أو أتي بشيء ورد به الشرع لكن على هيئة ابتدعها أو في زمان ابتدعه، قلنا إنها مردودة عليك؛ لأنه لابد أن تكون العبادة مبنية على ما جاء به الشرع؛ لأن هذا هو مقتضى ما علّمك الله تعالى من العلم ألا تتعبد الله تعالى إلا بما شرع.
ولهذا قال العلماء إن الأصل في العبادات الحظر حتى يقوم دليل على المشروعية واستدلوا على ذلك بقوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّه} (الشورى: الآية 21). وبقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه في الصحيح من حديث عائشة- رضي الله عنها-: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد».
حتى لو كنت مخلصا وتريد الوصول إلى الله، وتريد الوصول إلى كرامته، ولكنه على غير الوجه المشروع فإن ذلك مردود عليك، ولو أنك أردت الوصول إلى الله من طريق لم يجعله الله تعالى طريقا.
للوصول إليه فإن ذلك مردود عليه.
إذن فواجب طالب العلم أن يكون متعبداً الله تعالى بما علمه من الشرع لا يزيد ولا ينقص، لا يقول إن هذا الأمر الذي أريد أن أتعبد لله به أمر تسكن إليه نفسي ويطمئن إليه قلبي وينشرح به صدري، لا يقول هكذا حتى لو حصل هذا فليزنها بميزان الشرع فإن شهد الكتاب والسنة لها بالقبول فعلى العين والرأس وإلا فإنه قد يزين له سوء عمله: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (فاطر: الآية 8).
كذلك لابد أن يكون عاملا بعمله في الأخلاق والمعاملة، والعلم الشرعي يدعو إلى كل خلق فاضل من الصدق، والوفاء ومحبة الخير للمؤمنين حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» وقال عليه الصلاة والسلام: «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه»، وكثير من الناس عندهم غيرة وحب للخير، ولكن يسعون الناس بأخلاقهم، نجدة عنده شدة وعنف حتى في مقام الدعوة إلى الله- عز وجل، نجده يستعمل العنف والشدة، وهذا خلاف الأخلاق التي أمر بها الله- عز وجل ـ.
واعلم أن حسن الخلق هو ما يقرب إلى الله- عز وجل- وأولى الناس برسول الله وأدناهم منه منزلة أحاسنهم أخلاقاً كما قال صلى الله عليه وسلم «إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إلى وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون». قالوا يا رسول الله! قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون؟ قال؟ «المتكبرون».
الأمر السادس: الدعوة إلى الله:
أن يكون داعياً بعلمه إلى الله- عز وجل- يدعو في كل مناسبة في المساجد، وفي المجالس، وفي الأسواق وفي كل مناسبة، هذا النبي بعد أن آتاه الله النبوة والرسالة ما جلس في بيته بل كان يدعو الناس ويتحرك، وأنا لا أريد من طلبة العلم أن يكونوا نسخاً من كتب، ولكني أريد منهم أن يكونوا علماء عاملين.
الأمر السابع: الحكمة:
أن يكون متحلياً بالحكمة، حيث يقول الله تعلي: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} (البقرة: الآية 269) والحكمة أن يكون طالب العلم مربياً لغيره بما يتخلق به من الأخلاق، وبما يدعو إليه من دين الله- عز وجل- بحيث يخاطب كل إنسان بما يليق بحاله، وإذا سلكنا هذا الطريق حصل لنا خير كثير كما قال ربنا- عز وجل:- {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} (البقرة: الآية 269).
والحكيم هو: الذي ينزل الأشياء منازلها، لأن الحكيم مأخوذ من الإحكام وهو الإتقان، وإتقان الشيء أن ينزله منزلته، فينبغي بل يجب على طالب العلم أن يكون حكيماً دعوته.
وقد ذكر الله مراتب الدعوة في قوله تعالي: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: الآية 125) وذكر الله تعالى مرتبة رابعة في جدال أهل الكتاب فقال تعالي: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (العنكبوت: الآية 46).فيختار طالب العلم من أساليب الدعوة ما يكون أقرب إلى القبول، ومثال ذلك في دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، جاء أعرابي فبال في جهة من المسجد، فقام إليه الصحابة يزجرونه، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولما قضى بوله دعاه النبي وقال له: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر، إنما هي لذكر الله عز وجل، والصلاة، وقراءة القرآن» أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، أرأيتم أحسن من هذه الحكمة؟ فهذا الأعرابي انشرح صدره واقتنع حتى إنه قال: اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحداً.
وقصة أخرى عن معاوية بن الحكم السُلميّ، قال: بيْنا أنا أصلي مع رسول الله إذ عطس رجل من القوم، فقلت: واُثكل أُمياه! ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم. فلما رأيتهم يصمتونني، لكنّي سكتٌ. فلما صلى رسول الله، فبأبي هو وأمي! ما رأيت معلماً بعده أحسن تعليماً منه، فوالله! ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني. قال: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» ومن هنا نجد أن الدعوة إلى الله يجب أن تكون بالحكمة كما أمر الله- عز وجل-.
ومثال آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً وفي يده خاتم ذهب وخاتم الذهب حرام على الرجال، فنزعه النبي من يده ورمى به، وقال: «يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيضعها في يده» ولما انصرف النبي قيل للرجل: خذ خاتمك انتفع به، فقال: والله لا آخذ خاتماً طرحه رسول الله، فأسلوب التوجيه هنا أشد؛ لأن لكل مقام مقالاً، وهكذا ينبغي لك من يدعو إلى الله أن ينزل الأمور منازلها وألا يجعل الناس على حد سواء، والمقصود حصول المنفعة.
وإذا تأملنا ما عليه كثير من الدعاة اليوم وجدنا أن بعضهم تأخذه الغيرة حتى ينفر الناس من دعوته، لو وجد أحداً يفعل شيئاً محرماً لوجدته يشهر به بقوى وبشدة يقول: ما تخاف الله، ما تخشى الله، وما أشبه ذلك حتى ينفر منه، وهذا ليس بطيب؛ لأن هذا يقابل بالضد، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- لما نقل عن الشافعي- رحمه الله- ما يراه في أهل الكلام، حينما قال: حكمي في أهل الكلام أ، يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في العشائر ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على الكلام.
قال شيخ الإسلام: إن الإنسان إذا نظر إلى هؤلاء وجدهم مستحقين لما قاله الشافعي من وجه، ولكنه إذا نظر إليهم بعين القدر والحيرة قد استولت عليهم والشيطان قد استحوذ عليهم، فإنه يرق لهم ويرحمهم، ويحمد الله أن عافاه مما ابتلاهم به، أو توا ذكاءً وما أوتوا زكاء، أو أوتوا فهوما وما أوتوا علوما، أو أوتوا سمعاً وأبصاراً وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء.
هكذا ينبغي لنا أيها الأخوة أن ننظر إلى أهل المعاصي بعينين: عين الشرع، وعين القدر،عير الشرع إي لا تأخذنا في الله لومة لائم كما قالت تعالى عن الزانية والزاني: {فاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} (النور: الآية 2)
وننظر إليهم بعين القدر فنرحمهم ونرق لهم ونعاملهم بما نراه أقرب إلى حصول المقصود وزوال المكروه، وهذا من آثار طالب العلم بخلاف الجاهل الذي عنده غيرة، لكن ليس عنده علم، فطالب العلم الداعية إلى الله يجب أن يستعمل الحكمة.
الأمر الثامن: أن يكون الطالب صابراً على العلم:
أي مثابراً عليه لا يقطعه ولا يمل بل يكون مستمراً في تعلمه بقدر المستطاع، وليصبر على العلم، ولا يمل فإن الإنسان إذا طرقه الملل استحسر وترك، ولكن إذا كان مثابراً على العلم فإنه ينال أجر الصابرين من وجه، وتكون له العاقبة من وجه آخر، واستمع إلى قول الله- عز وجل- مخاطباً نبيه: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (هود الآية: 49).
الأمر التاسع: احترام العلماء وتقديرهم:
إن على طلبة العلم احترام العلماء وتقديرهم، وأن تتسع صدورهم لما يحصل من اختلاف بين العلماء وغيرهم، وأن يقابلوا هذا بالاعتذار عمن سلك سبيلاً خطأ في اعتقادهم، وهذه نقطة مهمة جداً؛ لأن بعض الناس يتتبع أخطاء الآخرين، ليتخذ منها ما ليس لائقا في حقهم، ويشوش على الناس سمعتهم، وهذا أكبر الأخطاء، وإذا كان اغتياب العامي من الناس من كبائر الذنوب فإن اغتياب العالم أكبر وأكبر؛ لأن اغتياب العالم لا يقتصر ضرره على العالم بل عليه وعلى ما يحمله من العلم الشرعي.
والناس إذا زهدوا في العالم أو سقط من أعينهم تسقط كلمته أيضاً. وإذا كان يقول الحق ويهدي إليه فإن غيبة هذا الرجل لهذا العالم تكون حائلاً بين الناس وبين علمه الشعري، وهذا خطره كبير وعظيم.
أقول: إن على هؤلاء الشباب أن يحملوا ما يجري بين العلماء من الاختلاف على حسن النية، وعلى الاجتهاد، وأن يعذروهم فيما أخطأوا فيه، ولا مانع أن يتكلموا معهم فيما يعتقدون أنه خطأ، ليبينوا لهم هل الخطأ منهم أومن الذين قالوا إنهم أخطأوا؟ لأن الإنسان أحياناً يتصور أن قول العالم خطأ، ثم بعد المناقشة يتبين له صوابه. والإنسان بشر «كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون».
أما أن يفرح بزلة العالم وخطئه، ليشيعها بين الناس فتحصل الفرقة، فإن هذا ليس من طريق السلف.
وكذلك أيضاً ما يحصل من الأخطاء من الأمراء، لا يجوز لنا أن نتخذ ما يخطئون فيه سٌلّماً للقدح فيهم في كل شيء ونتغاضى عما لهم من الحسنات؛ لأن الله يقول في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} (المائدة: الآية 8).يعني لا يحملكم بغض قوم على عدم العدل، فالعدل واجب، ولا يحل للإنسان أن يأخذ زلات أحد من الأمراء أو العلماء أو غيرهم فيشيعها بين الناس، ثم يسكت عن حسناتهم، فإن هذا ليس بالعدل. وقس هذا الشيء على نفسك لو أن أحداً سٌلط عليكم وصار ينشر زلاتك وسيئاتك، ويخفي حسناتك وإصاباتك، لعددت ذلك جناية منه عليك، فإذا كنت ترى ذلك في نفسك؛ فإنه يجب عليك أن ترى ذلك في غيرك، وكما أشرت آنفاً إلى أن علاج ما تظنه خطأ أن تتصل بمن رأيت أنه أخطأ، وأن تناقشه، ويتبين الموقف بعد المناقشة.
فكم من إنسان بعد المناقشة يرجع عن قوله إلى ما يكون هو الصواب، وكم من إنسان بعد المناقشة يكون قوله هو الصواب، وظننا هو الخطأ. «فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً» وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه»، وهذا هو العدل والاستقامة.
الأمر العاشر: التمسك بالكتاب والسنة:
يجب على طالبة العلم الحرص التام على تلقي العلم والأخذ من أصوله التي لا فلاح لطالب العلم إن لم يبدأ بها، وهي:
1- القران الكريم: فإنه يجب على طالب العلم الحرص عليه قراءةً وحفظاً وفهماً وعملاً به، فإن القرآن هو حبل الله المتين، وهو أساس العلوم، وقد كان السلف يحرصون عليه غاية الحرص فيذكر عنهم الشيء العجيب من حرصهم على القرآن، فتجد أحدهم حفظ القرآن وعمره سبع سنوات، وبعضهم حفظ القرآن في أقل من شهر، وفي هذا دلالة على حرص السلف- رضوان الله عليهم- على القرآن، فيجب على طالب العلم الحرص عليه وحفظه على يد أحد المعلمين؛ لأن القرآن يؤخذ عن طريق التلقي.
وإنه مما يؤسف له أن تجد بعض طلبة العلم لا يحفظ القرآن، بل بعضهم لا يحسن القراءة، وهذا خلل كبير في منهج طلب العلم. لذلك أكرر أنه يجب على طلبة العلم الحرص على حفظ القرآن والعمل به والدعوة إليه وفهمه فهماً مطابقاً لفهم السلف الصالح.
2- السنة الصحيحة: فهي ثاني المصدرين للشريعة الإسلامية، وهي الموضحة للقرآن الكريم، فيجب على طالب العلم الجمع بينهما والحرص عليهما، وعلى طالب العلم حفظ السنة، إما بحفظ نصوص الأحاديث أو بدراسة أسانيدها ومتونها وتمييز الصحيح من الضعيف، وكذلك يكون حفظ السنة بالدفاع عنها والرد على شبهات أهل البدع في السنة.
فيجب على طالب العلم أن يلتزم بالقرآن والسنة الصحيحة، وهما له- إي طالب العلم- كالجناحين للطائر إذا انكسر أحدهما لم يطر.
لذلك لا تراعي السنة وتغفل عن القرآن، أو تراعي القرآن وتغفل عن السنة، فكثير من طلبة العلم يعتني بالسنة وشروحها ورجالها، ومصطلحاتها اعتناءً كاملاً؛ لكن لو سألته عن آية من كتاب الله لرأيته جاهلا بها، وهذا غلط كبير، فلا بد أن يكون الكتاب والسنة لرأيته جاهلا بها، وهذا غلط كبير، فلا بد أن يكون الكتاب والسنة جناحين لك يا طالب العلم، وهناك شيء ثالث منهم وهو كلام العلماء، فلا تهمل كلام العلماء ولا تغفل عنه؛ لأن العلماء أشد رسوخاً منك في العلم، وعندهم من قواعد الشريعة وأسرارها وضوابطها ما ليس عندك ولهذا كان العلماء الأجلاء المحققون إذا ترجح عندهم قول، يقولون: إن كان أحد قال به وإلا فلا نقول به، فمثلا شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله تعالي- على علمه وسعة اطلاعه إذا قال قولاً لا يعلم به قائلاً قال: أنا أقول به إن كان قد قيل به، ولا يأخذ برأيه.
لذا يجب على طالب العلم الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يستعين بكلام العلماء.
والرجوع إلى كتاب الله يكون بحفظه وتدبره والعمل على ما جاء به؛ لأن الله يقول: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (ص الآية: 29) {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} وتبر الآيات يوصل إلى فهم المعنى {وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}. والتذكر هو العمل بهذا القرآن.
نزل هذا القرآن لهذه الحكم، وإذا كان نزل لذلك؛ فلنرجع إلى الكتاب لنتدبره ولنعلم معانيه، ثم نطبق ما جاء به ووالله إن فيه سعادة الدنيا والآخرة، يقول الله تعالي: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (طه: الآيتان 123،: 124).
ولهذا لا تجد أحداً أنعم بألاً، ولا أشرح صدراً، ولا أشد طمأنينة في قلبه من المؤمن أبداً، حتى وإن كان فقيراً، فالمؤمن أشد الناس انشراحاً، وأشد الناس اطمئناناً، وأوسع الناس صدراً واقرأوا إن شئتم قول الله تعالي: قول الله تعالي: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون} (النحل الآية: 97).
ما هي الحياة الطيبة؟
الجواب: الحياة الطيبة هي انشراح الصدر وطمأنينة القلب، حتى ولو كان الإنسان في أشد بؤس، فإنه مطمئن القلب منشرح الصدر، قال النبي: «عجباً الأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له».
الكافر إذا أصابته الضراء هل يصبر؟ فالجواب: لا. بل يحزن وتضيق عليه الدنيا، وربما انتحر وقتل نفسه، ولكن المؤمن يصبر ويجد لذة الصبر انشراحاً وطمأنينة؛ ولذلك تكون حياته طيبة، وبذلك يكون قوله تعالى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}. حياة طيبة في قبله ونفسه.
بعض المؤرخين الذين تكلموا عن حياة الحافظ ابن حجر- رحمه الله- وكان قاضي قضاة مصر في عهده، وكان إذا جاء إلى مكان عمله يأتي بعربة تجرها الخيول أو البغال في موكب. فمر ذات يوم برجل يهودي في مصر زيات- أي يبيع الزيت- وعادة يكون الزيات وسخ الثياب- فجاء اليهودي فأوقف الموكب. وقال للحافظ ابن حجر- رحمه الله-: إن نبيكم يقول: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر». وأنت قاضي قضاة مصر،وأنت في هذا الموكب، وفي هذا النعيم، وأنا- يعني نفسه اليهودي- في هذا العذاب وهذا الشقاء.
قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله-: أنا فيما أنا فيه من الترف والنعيم يعتبر بالنسبة إلى نعيم الجنة سجناً، وأما أنت بالنسبة للشقاء الذي أنت فيه يعتبر بالنسبة لعذاب النار جنة. فقال اليهودي: أهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله. وأسلم.
فالمؤمن في خير مهما كان، وهو الذي ربح الدنيا والآخرة.
والكافر في شر وهو الذي خسر الدنيا والآخرة.
قال الله تعالى: {وَالْعَصْر إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر} [العصر الآيات 1- 3].
فالكفار والذين أضاعوا دين الله وتاهوا في لذاتهم وترفهم، فهم وإن بنوا القصور وشيدوها وازدهرت لهم الدنيا؛ فإنهم في الحقيقة في جحيم، حتى قال بعض السلف: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف.
أما المؤمنون فقد نعموا بمناجاة الله وذكره، وكانوا مع قضاء الله وقدره، فإن أصابتهم الضراء صبروا، وإن أصابتهم السراء شكروا، فكانوا في أنعم ما يكون، بخلاف أصحاب الدنيا فإنهم كما وصفهم الله بقوله: {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} (التوبة: الآية 58).
وأما الرجوع إلي السنة النبوية: فسنة الرسول ثابتة بين أيدينا، ولله الحمد، ومحفوظة، حتى ما كان مكذوباً على الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن أهل العلم بينوا سنته، وبينوا ما هو مكذوب عليه، وبقيت السنة- ولله الحمد- ظاهرة محفوظة، يستطيع إي إنسان أن يصل إليها إما بمراجعة الكتب- إن تمكن- وإلا ففي سؤال أهل العلم.
ولكن إذا قال قائل: كيف توفق بين ما قلت من الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله؟ مع أننا نجد أن أناساً يتبعون الكتب المؤلفة في المذاهب ويقول: أنا مذهبي كذا؛ وأنا مذهبي كذا؛ وأنا مذهبي كذا!! حتى إنك لتفتي الرجل وتقول له: قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا، فيقول: أنا مذهبي حنفي، أنا مذهبي مالكي، أنا مذهبي شافعي، أنا مذهبي حنبلي... وما أشبه ذلك.
فالجواب: أن نقول لهم إننا جميعا نقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.
فما معني شهادة أن محمداً رسول الله؟
قال العلماء: معناها: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهي وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع.
فإذا قال إنسان أنا مذهبي كذا أو مذهبي كذا أو مذهبي كذا فنقول له: هذا قول الرسول- عليه الصلاة والسلام- فلا تعارضه بقول أحد.
حتى أئمة المذاهب ينهون عن تقليدهم تقليدا محضاً ويقولون: متى تبين الحق فإن الواجب الرجوع إليه.
فنقول لمن عارضنا بمذهب فلان أو فلان: نحن وأنت نشهد أن محمداً رسول الله، وتقتضي هذه الشهادة إلا نتبع إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه السنة بين أيدينا واضحة جلية، ولكن لست أعني بهذا القول أن نقلل من أهمية الرجوع لكتب الفقهاء وأهل العلم، بل إن الرجوع إلى كتبهم للانتفاع بها ومعرفة الطرق التي بها تستنبط الأحكام من أدلتها من الأمور التي لا يمكن أن تحقق طلب العلم إلا بالرجوع إليها.
ولذلك نجد أولئك القوم الذين لم يتفقهوا على أيدي العلماء نجد أن عندهم من الزلات شيئاً كثيراً؛ لأنهم صاروا ينظرون بنظر أقل مما ينبغي أن ينظروا فيه، يأخذون مثلاُ صحيح البخاري فيذهبون إلى ما فيه من الأحاديث، مع أن في الأحاديث ما هو عام، ومخصص، ومطلق، ومقيد، وشيء منسوخ، لكنهم لا يهتدون إلى ذلك، فيحصل بهذا ضلال كبير.
الأمر الحادي عشر: التثبت والثبات:
ومن أهم الآداب التي يجب أن يتحلى بها طالب العلم التثبت فيما ينقل من الأخبار والتثبت فيما يصدر من الأحكام، فالأخبار إذا نقلت فلابد أن تتثبت أولاً هل صحت عمن نقلت إليه أو لا، ثم إذا صحت فتثبت في الحكم ربما يكون الحكم الذي سمعته مبنياً على أصل تجهله أنت، فتحكم أنه خطأ، والواقع أنه ليس بخطأ.
ولكن كيف العلاج في هذه الحال؟
العلاج: أن تتصل بمن نُسب إليه الخبر وتقول نقل عنك كذا وكذا فهل هذا صحيح؟ ثم تناقشه فقد يكون استنكارك ونفور نفسك منه أول وهلة سمعته لأنك لا تدري ما سبب هذا المنقول، ويقال إذا علم السبب بطل العجب، فلابد أولاً من التثبت في الخبر والحكم، ثم بعد ذلك تتصل بمن نقل عنه وتسأله هل صح ذلك أم لا؟ ثم تناقشه: إما أن يكون هو على حق وصواب فترجع إليه أو يكون الصواب معك فيرجع إليه.
وهناك فرق بين الثبات والتثبت فهما شيئان متشابهان لفظاً مختلفان معني.
فالثبات معناه: الصبر والمثابرة وإلا يمل ولا يضجر وإلا يأخذ من كل كتاب نتفة، أو من كل فن قطعة ثم يترك؛ لأن هذا الذي يضر الطالب، ويقطع عليه الأيام بلا فائدة، فمثلاً بعض الطلاب يقرأ في النحو: في الأجرومية ومرة في متن قطر الندي، ومرة في الألفية. وكذلك الحال في: المصطلح، مرة في النخبة، ومرة في ألفية العراقي، وكذلك في الفقه: مرة في زاد المستقنع، ومرة في عمدة الفقه، ومرة في المغني، ومرة في شرح المهذب، وهكذا في كل كتاب، وهلم جرا، هذا في الغالب لا يحصلُ علماً، ولو حصل علماً فإنه يحصل مسائل لا أصولاً، وتحصيل المسائل كالذي يتلقط الجراد واحدة بعد الأخرى، لكن التأصيل والرسوخ والثبات هو المهم، فكن ثابتاً بالنسبة للكتب التي تقرأ أو تراجع وثابتاً بالنسبة للشيوخ الذين تتلقى عنهم، لا تكون ذواقاً كل أسبوع عند شيخ، كل شهر عن شيخ، قرر أولاً من ستتلقى العلم عنده، ثم إذا قررت ذلك فاثبت ولا تجعل كل شهر أو كل أسبوع لك شيخا، ولا فرق بين أن تجعل لك شيخاً في الفقه وتستمر معه في الفقه، وشيخا آخر في النحو وتستمر معه في النحو، وشيخاً آخر في العقيدة والتوحيد وتستمر معه، المهم أن تستمر لا أن تتذوق، وتكون كالرجل المطلاق كما تزوج امرأة وجلس عندها أياماً طلقها وذهب يطلب أخرى.
أيضاً التثبت أمر مهم؛ لأن الناقلين تارة تكون لهم نوايا سيئة، ينقلون ما يشوه سمعته المنقول عنه قصداً وعمداً، وتارة لا يكون عندهم نوايا سيئة ولكنهم يفهمون الشيء على خلاف معناه الذي أريد به، ولهذا يجب التثبت، فإذا ثبت بالسند ما نٌقل أتى دور المناقشة مع صاحبه الذي نقل عنه قبل أن تحكم على القول بأنه خطأ أو غير خطأ، وذلك لأنه ربما يظهر لك بالمناقشة أن الصواب مع هذا الذي نٌقل عنه الكلام.
والخلاصة أنه إذا نقل عن شخص ما، ترى أنه خطأ فاسلك طرقا ثلاثة على التريب:
الأول: التثبت في صحة الخبر.
الثاني: النظر في صواب الحكم، فإن كان صواباً فأيده ودافع عنه، وإن رأيته خطأ فاسلك الطريق الثالث وهو: الاتصال بمن نسب إليه لمناقشته فيه وليكن ذلك بهدوء واحترام.
الأمر الثاني عشر: الحرص على فهم مراد الله تعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم:
من الأمور المهمة في طلب العلم قضية الفهم، أي فهم مراد الله- عز وجل- ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن كثيراً من الناس أوتوا علماً ولكن لم يؤتوا فهماً. لا يكفي أن تحفظ كتاب الله وما تيسر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بدون فهم. لابد أ ن تفهم عن الله ورسوله ما أراده الله ورسوله، وما أكثر الخلل من قوم استدلوا بالنصوص على غير مراد الله ورسوله فحصل بذلك الضلال.
وهنا أنبّه على نقطة مهمة ألا وهي: أن الخطأ في الفهم قد يكون أشد خطراً بالجهل؛ لأن الجاهل الذي يخطىء بجهله يعرف أنه جاهل ويتعلم، لكن الذي فهم خطأ يعتقد في نفسه أنه عالم مصيب، ويعتقد أن هذا هو مراد الله ورسوله، ولنضرب لذلك بعض الأمثلة ليتبين لنا أهمية الفهم:
المثال الأول: قال الله تعالي: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء الآيتان: 78، 79].
فضل الله- عز وجل- سليمان على داود في هذه القضية بالفهم {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَان} ولكن ليس هناك نقص في علم داود {وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً}.
وانظر إلى هذه الآية الكريمة لما ذكر الله- عز وجل- ما امتاز به سليمان من الفهم، فإنه ذكر أيضاً ميزة داود عليه السلام، فقال تعالى: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ}. وذلك حتى يتعادل كل منهما، فذكر الله تعالى ما اشتركا فيه من الحكم والعلم ثم ذكر ما امتاز به كل واحد منهما عن الآخر.
وهذا يدلنا على أهمية الفهم، وأن العلم ليس كل شيء.
المثال الثاني: إذا كان عندك وعاءان أحدهما فيه ماء ساخن دافىء، والآخر فيه ما بارد قارس، والفصل فصل الشتاء، فجاء رجل يريد الاغتسال من الجنابة، فقال بعد الناس: الأفضل أن تستخدم الماء البارد، وذلك لأن الماء البارد فيه مشقة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أدلكم على ما يمحوا الله به الخطايا ويرفع به الدرجات، قالوا بلي يا رسول الله. قال: إسباغ الوضوء على المكاره» الحديث.
يعني إسباغ في أيام البرد فإذا أسبغت الوضوء بالماء البارد كان أفضل من أن تسبغ الوضوء بالماء المناسب لطبيعة الجو.
فالرجل أفتى بأن استخدام الماء البارد أفضل واستدل بالحديث السابق.
فهل الخطأ في العلم أم في الفهم؟
الجواب: أن الخطأ في الفهم؛ لأن الرسول يقول: «إسباغ الوضوء على المكاره» ولم يقل: أن تختار الماء البارد للوضوء، وفرق بين التعبيرين. لو كان الوارد في الحديث التعبير الثاني لقلنا نعم اختر الماء البارد. ولكن قال: «إسباغ الوضوء على المكاره». أي أن الإنسان لا يمنعه برودة الماء من إسباغ الوضوء.
ثم نقول: هل يريد الله بعباده اليسر أم يريد بهم العسر؟
الجواب: في قوله تعالي: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة: الآية 185) وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الدين يسر».
فأقول لطلبة العلم: إن قضية الفهم قضية مهمة، فعلينا أن تفهم ماذا أراد الله من عباده؟ هل أراد أن يشق عليهم في أداء العبادات أم أراد بهم اليسر؟!
ولا شك أن الله- عز وجل- يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر.
فهذه بعض آداب مما ينبغي لطالب العلم أن يكون متأثراً بها في علمه حتى يكون قدوة صالحاً وحتى يكون داعيا إلى الخير وإماماً في دين الله- عز وجل- فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، كما قال الله تعالي: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} (السجدة الآية: 24).